فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)}
(لا) زائدة، والتقدير فأقسم، وقيل: (لا) راد على أقوال الكفار وابتداء القول {أقسم}، وقسم الله تعالى بمخلوقاته هو على جهة التشريف لها، وتعريضها للعبرة، إذ القسم بها منبه منها و{الشفق}، الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب، وقيل {الشفق} هنا النهار كله قاله مجاهد، وهذا قول ضعيف، وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز: {الشفق}: البياض الذي تتلوه الحمرة، و{وسق}: معناه جمع وضم، ومنه الوسق أي الأصوع المجموعة، والليل يسق الحيوان جملة أي يجمعها في نفسه ويضمها، وكذلك جميع المخلوقات التي في أرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، و(اتساق القمر): كماله وتمامه بدراً، فالمعنى امتلأ من النور.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن عباس وعمر بخلاف عنهما، وأبو جعفر والحسن والأعمش وقتادة وابن جبير: {لتركبن} بضم الباء على مخاطبة الناس، والمعنى {لتركبن} الشدائد: الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال أو تكون من النطفة إلى الهرم كما تقول طبقة بعد طبقة و{عن} تجيء في معنى بعد كما يقال: ورث المجد كابراً عن كابر وقيل المعنى {لتركبن} هذه الأحوال أمة بعد أمة، ومنه قول العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه السلام:
وأنت لما بعثت أشرقت الأ ** رض وضاءت بنورك الطرق

تنقل من صالب إلى رحم ** إذا مضى علم بدا طبق

أي قرن من الناس لأنه طبق الأرض، وقال الأقرع بن حابس: البسيط:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ** وساقني طبق منه إلى طبق

أي حال بعد حال، وقيل المعنى: {لتركبن} الآخرة بعد الأولى.
وقرأ عمر بن الخطاب أيضًا: {ليركبن} على أنهم غيب، والمعنى على نحو ما تقدم، وقال ابو عبيدة ومكحول: المعنى {لتركبن} سنن من قبلكم.
قال القاضي أبو محمد: كما جاء في الحديث: «شبراً بشبر، وذراعاً بذراع»، فهذا هو {طبق عن طبق}، ويلتئم هذا المعنى مع هذه القراءة التي ذكرنا عن عمر بن الخطاب، ويحسن مع القراءة الأولى.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعمرو بن مسعود ومجاهد والأسود ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وعيسى: {لتركبن}، بفتح الباء على معنى: أنت يا محمد، وقيل المعنى: حال بعد حال من معالجة الكفار، وقال ابن عباس المعنى: سماء بعد سماء في الإسراء، وقيل هي عدة بالنصر، أي {لتركبن} العرب قبيلاً بعد قبيل، وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك، قال ابن مسعود: المعنى: {لتركبَن} السماء في أهوال القيامة، حالاً بعد حال تكون كالمهل وكالدهان وتتفطر وتتشقق، فالسماء هي الفاعلة.
وقرأ ابن عباس أيضًا وعمر رضي الله عنهما: {ليركبن} بالياء على ذكر الغائب، فإما أن يراد محمد صلى الله عليه وسلم على المعاني المتقدمة، وقاله ابن عباس يعني: نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأما ما قال الناس في كتاب النقاش من أن المراد: القمر، لأنه يتغير أحوالاً من سرار واستهلال وإبدار، ثم وقف تعالى نبيه، والمراد أولئك الكفار بقوله: {فما لهم لا يؤمنون}، أي من حجتهم مع هذه البراهين الساطعة.
وقرأ الجمهور: {يُكذّبون} بضم الياء وشد الذال.
وقرأ الضحاك: بفتح الباء وتخفيف الذال وإسكان الكاف، و{يوعون} معناه: يجمعون من الأعمال والتكذيب والكفر، كأنهم يجعلونها في أوعية، تقول: وعيت العلم وأوعيت المتاع، وجعل البشارة في العذاب لما صرح له، وإذا جاءت مطلقة، فإنما هي من الخبر، ثم استثنى تعالى من كفار قريش القوم الذين كان سبق لهم الإيمان في قضائه، و{ممنون} معناه: مقطوع من قولهم: حبل منين أي مقطوع، ومنه قول الحارث بن حلّزة اليشكري: الخفيف:
فترى خلفهن من شدة الر ** جع منيناً كأنني أهباء

يريد غباراً متقطعاً، وقال ابن عباس: {ممنون} بمعنى: معدود عليهم محسوب منغص بالمن. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} أي فأقسم و(لا) صلة.
{بالشفق} أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة.
قال أشهب وعبد الله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم، عن مالك: الشَّفَق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجتُ من وقت المغرب ووجبتْ صلاة العشاء.
وروى ابن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي بن أبي طالب ومُعاذ بن جبل وعُبادة ابن الصامت وشدّاد بن أوس وأبي هريرة: أن الشفَق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس.
وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنَساً وأبا قتادة وجابر بن عبد الله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبد الله بن دينار، والزهريّ، وقال به من الفقهاء الأوزاعيّ ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيد وأحمد وإسحاق.
وقيل: هو البياض؛ رُوي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضًا وعمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه.
وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه.
ورُوِي عن ابن عمر أيضًا أنه البياض والاختيار الأوّل؛ لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه؛ ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة؛ وقال الشاعر:
وأحمر اللون كمحمرّ الشفق

وقال آخر:
قم يا غلام أعِني غير مرتبكٍ ** على الزمانِ بِكأسِ حَشْوُها شَفَقُ

ويقال للمَغْرة الشفق.
وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أوّل الليل إلى قريب من العَتَمة.
قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق.
ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشيء؛ يقال: شيء شَفِق أي لا تماسك له لرقته.
وأشفق عليه: أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رِقة القلب، وكذلك الشَّفَق؛ قال الشاعر:
تهوَى حَياتِي وأهوى موتها شَفَقاً ** والموتُ أَكرم نَزَّالٍ على الحُرَمِ

فالشفَق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرّقة عن ضوء الشمس.
وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلاً.
وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردّد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب.
وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره.
وفي سُنَن أبي داود عن النعمان بن بَشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة.
وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأوّل الاسم.
لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الأوّل، فإنا نقول الفجر الأوّل لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال:
«وليس الفجر أن تقول هكذا فرفع يده إلى فوق ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها» وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة (البقرة)، فلا معنى للإعادة.
وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال: «والليلِ وما وسق».
وقال عِكرمة: ما بقي من النهار.
والشفق أيضًا: الرديء من الأشياء؛ يقال: عطاء مُشفَّق أي مقلل قال الكُميت:
ملكَ أغَر مِن الملوك تحلَّبَتْ ** للسائلين يداه غيرَ مُشفِّقِ

قوله تعالى: {والليل وَمَا وسق} أي جمع وضم ولف، وأصله من سَوْرة السلطان وغضبه؛ فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه، ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم ابذعروا والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هَوْلِه وحشا، وهو قوله تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص: 73] أي بالليل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] أي بالنهار على ما تقدم.
فالليل يجمع ويضم ما كان منتشراً بالنهار في تَصَرّفه.
هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم؛ قال ضابيء ابن الحارث البرجُمِيّ:
فإني وإِياكُمْ وشوقاً إِليكُمْ ** كقابِضِ ماءٍ لم تَسِقْه أناملُهْ

يقول: ليس في يدهِ من ذلك شيء كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء؛ فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له، فقد وسقها.
والوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، تقول: وسقتُه أَسِقُه وسقاً.
ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعاً.
وطعام مُوسق: أي مجموع، وإبل مُسْتَوسقة أي مجتمعة؛ قال الراجز:
إنَّ لَنَا قِلائِصاً حقائِقاً ** مُسْتَوسقاتٍ لو يَجِدْنَ سائِقاً

وقال عِكرمة: {وما وسق} أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوِي، فالوسق بمعنى الطْرد، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر: وسِيقة، قال الشاعر:
كما قافَ آثارَ الوسِيقةِ قائِفُ

وعن ابن عباس: {وما وسق} أي وما جنّ وستر.
وعنه أيضًا: وما حَمَل، وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقتْ عيني الماء، أي حملته.
ووسقت الناقةُ تَسِق وسقاً: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وِسَاق مثلَ نائِم ونيام، وصاحِب وصحِاب، قال بشر بن أبي خازم:
أَلَظَّ بِهِن يحدوهُنّ حتى ** تبينتِ الحِيالُ مِن الوِساقِ

ومَواسيق أيضًا.
وأوسقت البعير: حَمَّلتة حملَه، وأوسقتِ النخلة: كثر حملها.
وقال بمان الضحاك ومقاتل ابن سليمان: حمل من الظلمة.
قال مقاتل: أو حمل من الكواكب.
القشيريّ: ومعنى حَمَل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شيء فإذا جللها فقد وسقها.
ويكون هذا القَسَم قسماً بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38-39] وقال ابن جُبير: {وما وسق} أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار، قال الشاعر:
ويوماً ترانا صالحين وتارةً ** تقومُ بِنا كالواسِق المتلَبِّب

أي كالعامل.
قوله تعالى: {والقمر إِذَا اتَّسَقَ} أي تم وأجتمع واستوى.
قال الحسن: اتَّسَقَ: أي امتلأ واجتمع.
ابن عباس: استوى.
قتادة: استدار.
الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالِيَ البدر، وهو افتعال من لوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتَّسَقَ، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان مُتَّسِق: أي مجتمع على الصلاح منتظم.
ويقال: اتَّسَقَ الشيء: إذا تتابع: {لتركبن طبقا عَن طبق} قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخَعيّ والشعبيّ وابن كثير وحمزة الكسائي {لتركبن} بفتح الباء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، قاله ابن عباس.
الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورُتبه بعد رتبة، في القربة من الله تعالى.
ابن مسعود: لتركبن السماء حالاً بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالمُهلِ ومرة كالدِّهانِ.
وعن إبراهيم عن عبد الأعلى: {طبقا عن طبق} قال: السماء تَقَلَّبُ حالاً بعد حال.
قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل؛ وقيل: أي لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال، من كونك نطفة ثم علقه ثم مضغة ثم حياً وميتاً وغنياً وفقيراً.
فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كادِحٌ} هو اسم للجنس، ومعناه الناس.
وقرأ الباقون {لتركبن} بضم الباء، خطاباً للناس، واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله.
أي لتركبن حالاً بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء.
قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل؛ إن الله لا إله غيره إذا أراد خَلْقه قال للملك أكتب رزقه وأثره وأجله، وأكتب شقياً أو سعيداً، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكاً آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخِل حفرته رُدّ الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد»
ثم قال الله عز وجل: {لقد كنت فيِ غفلة مِن هذا فكشفنا عنك غِطاءك، فبصرك اليوم حَدِيد} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{لتركبن طبقا عَن طبق} قال: حالاً بعد حال» ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن قُدَّامَكُمْ أمراً عظيماً فاستعينوا بالله العظيم» فقد اشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان، من حين يُخْلق إلى حين يُبعث، وكله شدّة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سَنَن من قبلكم شبراً بشبراً، وذراعاً بذارع، حتى لو دخلوا جُحر ضَبّ لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ»؟ خرجه البخاريّ.
وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالاً بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخاً بعد شَباب، قال الشاعر:
كذلِك المرءُ إِن يُنْسَأْلَهُ أَجلٌ ** يَرْكَب على طبق مِن بعدِهِ طبق

وعن مكحول: كلَّ عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه.
وقال الحسن: أمراً بعد أمر، رخَاء بعد شدّة، وشدّة بعد رَخاء، وغنًى بعد فقر، وفقرا بعد غنًى، وصحة بعد سُقْم، وسقماً بعد صحة.
سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة.
وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق، وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجري إلى شكله.
ابن زيد: ولتصيرُن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة.
وقال ابن عباس: الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العَرْض، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقَع في بَناتِ طبق، وإحدى بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بناتِ طبق: وأصلها من الحَيّات، إذ يقال للحية أم طبق لتحوِّيها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الأقرع بن حابس التميميّ:
إني امرؤ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَهُ ** وساقني طبق منه إلى طبق

وهذا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه: وقيل لأبي بكر الورَّاق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعاً؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تَنْقُل مِن صالبٍ إلى رَحِمٍ ** إِذا مضَى عالَمٌ بدا طبق

أي قرن من الناس.
يكون طباقَ الأرض أي ملأها.
والطبق أيضًا: عظم رقيق يفصل بين الفَقارين.
ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه.
والطبق: واحد الأطباق، فهو مشترك.
وقرئ: {لتركبن} بكسر الباء، على خطاب النفس و{لَيَرْكَبَن} بالياء على ليركبن الإنسان.
و{عن طبق} في محل نصب على أنه صفة لـ: {طبقا} أي طبقا مجاوزاً لطبق.
أو حال من الضمير في {لتركبن} أي لتركبن طبقا مجاوِزِين لطبق، أو مجاوزاً أو مجاوزة على حسب القراءة.
قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات.
وهذا استفهام إنكار.
وقيل: تعجب أي اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
قوله تعالى: {وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} أي لا يُصَلُّون.
وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ {إِذَا السماء انشقت} فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن المعنى لا يُذْعِنون ولا يطيعون في العمل بواجباته.
ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المَدَنيين عنه، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة.
قال ابن العربيّ: لما أَمَمْت بالناس تركت قراءتها؛ لأني إن سجدت أنكروه، وإِن تركتها كان تقصيراً مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي.
وهذا تحقيق وعدِ الصادق بأن يكون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لولا حِدْثان قومِك بالكفر لهدمتُ البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم» ولقد كان شيخنا أبو بكر الفِهْريّ يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشِّيعة، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ابن الشَّواء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المَحْرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعداً على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تَخْت المِيناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقيّ كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطُّرطُوشيّ فقيه الوقت.
فقالوا لي: ولَم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه.
وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أُقتل على سنةٍ؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك.
فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره.
قوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ}
محمداً صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
وقال مقاتل: نزلتْ في بني عمرو بن عُمَير وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم.
وقيل: هي في جميع الكفار.
{والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب.
كذا رَوي الضحاك عن ابن عباس.
وقال مجاهد: يكتمُون من أفعالهم.
ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة؛ مأخوذ من الوِعاء الذي يَجْمع ما فيه؛ يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوِعاء؛ قال الشاعر:
الخير أبقى وإِن طال الزمانُ بِهِ ** والشرُّ أَخبث ما أوعيت مِن زادِ

ووعاه أي حفظه؛ تقول: وَعَيْتُ الحديث أعِيهِ وَعياً، وأذُنٌ واعِية.
وقد تقدم.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مُوجع في جهنم على تكذيبهم.
أي اجعل ذلك بمنزلة البشارة.
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صَدَّقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدّوا الفرائض المفروضة عليهم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي ثواب {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير منقوص ولا مقطوع؛ يقال: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته.
وقد تقدم.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: {لهم أجر غير ممنونٍ} فقال: غير مقطوع.
فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم قد عرفه أخو يُشْكُرَ حيث يقول:
فترى خَلْفَهُنَّ مِن سُرْعةِ الرجْ ** عِ مَنيِناً كأَنَّهُ أَهباءُ

قال المبرد: المنين: الغبار؛ لأنها تقطعه وراءها.
وكل ضعيف منين وممنون.
وقيل: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يُمنّ عليهم به.
وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: {إِلا الذِين آمنوا وعمِلوا الصالِحاتِ} ليس استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا.
وقد مضى في (البقرة) القول فيه والحمد لله.
تمت سورة الانشقاق. اهـ.